القائمة الرئيسية

الصفحات

الإصلاحات الصينية خلال القرن 19م


 

 

الإصلاحات الصينية خلال القرن 19م

برنامج التقوية الذاتية: يانغ يو

    تداول الحكم في الصين عدد من الأباطرة الصغار السن خلال المرحلة الممتدة ما بين 1861/1908، وكان تعيينهم في يد الإمبراطورة سيسي التي سيطرت على كل شؤون البلاد بيد من حديد، حيث ظلت المدبرة الفعلية للبلاط الصيني.

   تزامنت هذه المرحلة بتزايد عدد الأصوات الداعية إلى الإصلاح لمواجهة التحديات الخارجية وسط كبار الموظفين والقادة الكونفوشوسيين و البوذيين المحافظين المنبهرين بالتكنولوجيا العسكرية والبحرية الغربية، بيد أن الصراع كان حادا في البلاط الإمبراطوري بين المحافظين ودعاة الإصلاح من جهة، وبين التطلعات المركزية ومصالح القادة الإقليميين من جهة ثانية، على أن الوعي بأهمية الإصلاح كان حاضرا وسط مكونات الحكومة المنشورية، وذلك بعدما وقف القادة العسكريون والسياسيون على مظاهر البون العسكري والتقني الشاسع بينها وبين القوى الأجنبية في مناسبات متعددة ( السفن الحربية البخارية - الأسلحة النارية والمدافع - وطرق تنظيم الجيش )، فدافعوا عن ضرورة اكتساب الآليات التقنية والتكنولوجية الغربية، لما لها من أدوار مزدوجة: تسمح بالقضاء على الحركات الاجتماعية والسياسية المناوئة للنظام السياسي القائم، والتصدي للأطماع الأجنبية.

    كان جواب الطبقة المتنورة حول كيفية التقدم ومجاراة الدول الأجنبية على تشكيل الحركة الإصلاحية يانغ يو ( التقوية الذاتية ) ضرورة اعتماد منهج الحركة الإصلاحية اليابانية؛ الذي يؤمن بتغيير الوضع انطلاقا من إصلاح الشؤون الداخلية وبزعامة إمبراطورية، فخلال سنة 1861م  رفع عدد من الأرستقراطيين مذكرة مطلبية للإمبراطور، يلتمسون منه تأسيس لجنة استشارية تتولى النظر في الشؤون الخارجية، وهيئة أخرى تتولى تسيير الموانئ المفتوحة في وجه التجار الأجانب واستخلاص الضرائب الجمركية، بدل الإدارة الإمبراطورية للجمارك التي يسيرها الإنجليز، وكذا جمع الأخبار المتعلقة بالأسواق الداخلية والخارجية.

    انطلقت عملية بلورة وتنفيذ برنامج التقوية الذاتية بعد انتهاء حرب الأفيون الثانية وعقب وفاة الإمبراطور شيان فنغ سنة 1861م وتتويج ابنه ذي ست سنوات امبراطورا، محاطا بأعضاء مجلس الوصاية.

     استهدف هذا البرنامج الإصلاحي من جهة مواجهة التحديات الداخلية والانتفاضات التي تقودها حركة التايبين ونيان وتوطيد وترسيخ السلطة الإمبراطورية وتقوية البنى الداخلية للبلاد على أساسا الحفاظ على النظام السياسي والاجتماعي القائم، ومن جهة أخرى الانفتاح الخارجي بتبني الآليات الحربية والتقنية الأجنبية سواء على مستوى العتاد الحربي أو الآليات التنظيمية وغيرها. حيث  أعطيت الأولوية خلال بداية هذا البرنامج حتى سنة 1861م للأسلحة النارية والتعرف على الأليات التكنولوجية، والتمكن من العلوم الأجنبية وتكوين الأطر التقنية والدبلوماسية. وكان الهدف الأسمى هو تطوير صناعة الأسلحة وتقوية الأسطول الحربي وإعادة تنظيم الجيش، باعتبارها المجالات التي حظيت بتوافق مختلف الأطياف داخل البلاط. وفي هذا الإطار، أنشئت مصانع للأسلحة ومصانع للسفن بدعم من التقنيين والمهندسين الأجانب. ولعل لهذه الإجراءات ارتباط بأولوية القضاء على الانتفاضات الفلاحية التي قادتها بشكل متزامن كل من حركة نيان في الأقاليم الشمالية، وحركة التايبين في الأقاليم الجنوبية التي شكلها الفلاحون ضد الملاكين العقاريين والأغنياء وضد الأسلوب المعتمد في توزيع الأراضي الزراعية. وتعد هذه الحركة الأخيرة أكثر تنظيما وقوة، إذ شنت المعارضة ضد السلالة الحاكمة المنشورية، باعتبارها قوة خارجية لا تمت بصلة بالصينيين، وتمكنت من الاستحواذ على الجنوب ومناطق شاسعة في وسط البلاد. كان برنامجها يسعى إلى الإصلاح الفلاحي و القضاء على الملكية الفردية وإعادة توزيع الأرض والمساواة بين الرجال والنساء والقضاء على الرق والدعارة وتعدد الزوجات والأفيون والتبغ. ولهذا كان بعض المؤرخين يعتبرونها بمثابة الإرهاصات الأولى للحركة الشيوعية بالصين.

  اما الاهتمام بالجانب العسكري فمكن امبراطورية التشينغ من القضاء و بوحشية كبيرة على حركة التايبين وانتفاضة نيان سنة 1868م وعلى العديد من الانتفاضات الأخرى، و قد خلفت حملات الإمبراطورية لقمع هذه التمردات الملايين من الضحايا المدنيين العزل . وذلك بمساهمة من القوى الأجنبية خصوصا فرنسا وانجلترا التي تدخلت في تصفية هذه الحركات ابتداء من سنة 1861م.

 الإصلاحات الاقتصادية والتعليمية

ولعل أبرز الإجراءات التي تم اتخاذها في هذا الصدد هي إنشاء مكاتب للترجمة وشركات متخصصة في القطن والإنتاج المعدني. موازاة مع الاهتمام بالملاحة البحرية والقطاع الفلاحي عبر إصلاح وسائل الإنتاج من سواقي ونواعير... وإرجاع الأراضي التي استولت عليها التايبين إلى أربابها والتخفيف من الضرائب العقارية. وذلك في وقت استمرت فيه الأقاليم في فرض الضرائب الجمركية على المبادلات التجارية الداخلية بين الأقاليم، وهو الأمر الذي كان يحد من حيوية المبادلات التجارية والآفاق التجارية والمالية للتجار. أما على مستوى التعليم والتكوين، فقد اهتم الصينيون بتعليم اللغات الأجنبية قصد تكوين الأطر القادرة على تدبير العلاقات الخارجية للبلاد، فتم تأسيس مدرسة لتعلمها ببكين، قبل تأسيس مدارس مشابهة في مناطق أخرى. إلى جانب ذلك، تم إنشاء مدرسة لتعلم الملاحة وصناعة السفن. وخلال منتصف السبعينيات، رفضت الحكومة عددا من المطالب المتعلقة بفتح مدارس عصرية لتدريس الفيزياء وعلم الخرائط والميكانيك والإلكترونيك وغيرها.

    لم يمنع هذا الأمر بعض القادة العسكريين من تأسيس مدارس تجمع بين تدريس هذه العلوم العصرية والتعاليم الكونفوشيوسية. ولما كانت لا تسمح بالتوظيف في المناصب الحكومية، فقد كان الإقبال عليها محدودا، فاستقطبت بالخصوص أبناء التجار والصناع الأثرياء. وبذلك مكنت من تكوين أطر عصرية متشبعة بالنظريات العلمية والسياسية الرائجة في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، وهي الأطر التي تم توظيفها في المؤسسات الصناعية والمالية والتجارية التي ظهرت خلال هذه المرحلة. في نفس الإطار، أرسلت الصين بعثات طلابية للدراسة بالمعاهد والمدارس العليا الأمريكية خلال أواخر سبعينيات القرن 19. لكن ظل الخوف من تشبع الطلبة بالقيم والثقافة الأمريكية مهيمنا على الطبقة الحاكمة. ويتجلى ذلك بشكل واضح في استدعاء عدد مهم منهم سنة 1881م للرجوع للبلاد، مع وضعهم تحت مراقبة غير مباشرة للقادة العسكريين، خشية نشرهم للأفكار التي تشبعوا بها في الخارج، ما يدل على أن أدوارهم وفعاليتهم التحديثية ظلت محدودة جدا.

   بالموازاة مع ذلك، نشطت حركة الترجمة للكتب العلمية والتقنية والقانونية والتاريخية وغيرها و تولى هذه المهمة مكتب شنغهاي للترجمة الذي انفتح على تجارب الأجانب القاطنين بالصين وقنصليات الدول الأجنبية، وعملت كذلك الإدارة الإمبراطورية للجمارك أنشئت سنة 1890م على تكوين المترجمين وترجمة الكتب الأجنبية، فضلا عن مهامها على مستوى استخلاص الضرائب الجمركية وأداء مختلف الغرامات والقروض الأجنبية، وتمويل البعثات والتمثيليات الدبلوماسية. مع بروز الدعوة لتسريع وتيرة الإصلاحات والاهتمام الكبير بتطوير صناعة النسيج خاصة؛ فتطورت بدلك خلال هذه المرحلة الشركات الخاصة والشركات المختلطة كمظهر من مظاهر تطور المؤسسات الاقتصادية للصين.

خلاصة عامة

    كل هذه الإجراءات لم تستهدف الإصلاح السياسي والاجتماعي للهياكل العتيقة، بقدر ما استهدفت الجوانب العسكرية والاقتصادية والتعليمية، مع التركيز على البعد التقني والتكنولوجي. لكن على الرغم من ذلك، فقد كان لهذه الإصلاحات تبعات سياسية كبيرة: كان تنفيذها بدعم تقني أجنبي ولهذا فقد ظلت شديدة الارتباط بالأجانب، وبلغت تكلفتها مستوى كبيرا جدا، مما سمح بالتالي بتغلغل الأجانب في القطاعات الاقتصادية والقطاع العسكري.

     رغم كل هدا ظل تأثير هده الإصلاحات محدودا على مستوى تحديث البلاد وتطوير كفاءاتها العسكرية، بفعل الإيمان القوي بعدم جدوى تغيير الأسس التي يقوم عليها المجتمع والاقتصاد الصيني؛ ويتجلى ذلك في حمل القادة الصينيين لشعار: "العلوم الغربية ليست لها سوى قيمة نفعية، العلوم الصينية هي أساس بناء المجتمع".

     ومنه فقد حققت الإصلاحات الصينية خلال القرن التاسع عشر الميلادي عكس ما كانت تروم إليه، خصوصا على مستوى الحد من الانفتاح على الأجانب؛ فبمجرد القضاء على حركة التايبين توغل الأجانب كثيرا في البلاد وفتحت في وجه سفنهم المزيد من الموانئ لتتدفق آلاف البواخر على البلاد، إضافة إلى ذلك تسربوا إلى قطاعات حيوية كمهندسين وتقنيين.

      ووصل الرأسمال الأجنبي إلى حوض يانغ زي الغني بالمواد الأولية، بل إن القوى الأجنبية سيطرت بشكل تام على اقتصاد البلاد: وجود 119 شركة أجنبية سنة 1889م و الهيمنة على تجهيزات البنية التحتية و على الاستثمارات الخارجية، فبريطانيا وحدها استحوذت على 86 % من مجموع الاستثمارات . ولم تحد الإجراءات المندرجة ضمن التقوية الذاتية من توالي الانهزامات أمام القوى الاستعمارية، فأحس الصينيون بالأسى والتحسر من انهزامهم ضد كل من  فرنسا واليابان على التوالي.

 

   

تعليقات