القائمة الرئيسية

الصفحات


 

 

المجتمع الفرنسي قبيل الثورة

    توطئة عامة 

    اجتمعت العديد من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية لتجعل من حدوث الثورة الفرنسية أمرا ممكنا، في زمن بدا فيه هذا الحدث بعيد المنال في البلاد الفرنسية، حتى أن أغلب المفكرين الأوروبيين حينذاك لم يتوقعوا انبعاث أي ثورة سياسية مسلحة من فرنسا، بل كانوا يترقبون اندلاعها من بلد اخر مثل إنجلترا نظرا للتناقضات الجديدة التي ظهرت في المجتمع الإنجليزي بسبب ما أحدثته الثورة الصناعية من تغيرات على علاقات الإنتاج والبنية الاجتماعية في إنجلترا. لكن العكس هو الذي حدث، انطلقت الثورة السياسية من بلد أوروبي لم يكن يعرف تطورا صناعيا ملحوظا مقارنة بذاك الذي كانت تعيشه مملكة إنجلترا، غير أن فرنسا كانت بالرغم من ذلك بلدا غارقا في الفوارق الاجتماعية، وفي الأزمات المالية وتسلط النبلاء ورجال الدين، فما هي الأسباب الاجتماعية التي دفعت عموم الشعب الفرنسي إلى الثورة؟

الهرم الطبقي للمجتمع الفرنسي

   تكون المجتمع الفرنسي انذاك من ثلاث طبقات أساسية، بينها حدود يصعب تخطيها، وفي إطارها وجدت تفاوتات صارخة استحال التقليص منها في ظل استمرار العقلية الإقطاعية الموروثة عن العصر الوسيط التي آمنت بالتفاضل الطبقي، حيث نجد أقلية متحكمة في السلطة والثروة، وأغلبية عانت من التهميش والفقر والخصاصة في كل شيء، لذلك ساهم التفاوت الطبقي في تأزيم أوضاع فرنسا، من خلال تنامي الحنق على الطبقات العليا من قبل الدنيا في المجتمع.

   وهكذا نجد فئات المجتمع الفرنسي كانت موزعة على الشكل الآتي:

    - طبقة النبلاء:

     وجدت طبقة النبلاء في قمة الهرم الاجتماعي الفرنسي، وتتكون من فئتين؛

نبلاء  البلاط؛ كبار النبلاء و التي تقدر بحوالي أربعة آلاف نبيل.

نبلاء الأقاليم؛ صغار النبلاء الذين يعيشون في البوادي.

   وقد شكل النبلاء  بصفة عامة ما بين 1 % و 1.5 % من مجموع الفرنسيين اي حوالي الثلاثمئة و الخمسين ألف شخص، وكانوا يحظون بمكانة هامة لدى النظام الملكي الفرنسي فهم يعيشون في كنف الملك ويحيطون به ويدافعون عنه و يمثلون السلطة الحاكمة و رجال الحكومة، في مقابل ذلك تمتعوا بالعديد من الامتيازات التي ورثوها عن عهد الإقطاع الأوروبي خلال العصور الوسطى، فقد كانوا يعيشون على مداخيل الأراضي الفلاحية  التي امتلكوها والتي تصل مساحتها إلى خمس الأراضي الفرنسية الصالحة للزراعة، والتي يعتمد استغلالها على  تشغيل الفلاحين والأقنان في اعمال السخرة و الذين كان للنبلاء عليهم حقوقا كثيرة من بينها حق فرض ضرائب معينة، و حق الليلة الأولى، وإجبار الفلاح على طحن غلاله في مطاحن النبيل وعصر زيته و خموره في معصرته، ويستفيدون من حقوق الصيد في أراضيهم، كما أنهم يعفون من الضرائب والالتزامات المالية تجاه الدولة. بالإضافة إلى هذه الامتيازات التي تجعل الفلاح الفرنسي مسخرا لخدمة النبيل، احتكر النبلاء المناصب العليا في الدولة الفرنسية من إدارة وجيش ودبلوماسية وقضاء.

    - هيئة الإكليروس (رجال الدين):

     تأتي هذه الطبقة في المرتبة الثانية في هرم السلم الاجتماعي الفرنسي بعد كل من العائلة الملكية والاقطاعيين النبلاء وتضم جميع العلماء الدارسيين للديانة المسيحية من رهبان وقساوسة وأساقفة وغيرهم، وقد تبوأت هذه الفئة الاجتماعية مكانة هامة لدى السلطة والمجتمع الفرنسين على حد سواء، فرجال الدين المسيحي هؤلاء القيمون على الشعائر المسيحية والساهرون على تطبيقها، ويشرفون على التعليم ويراقبون النشاط الفكري، وطبقا لذلك فقد مارسوا تأثيرا روحيا كبيرا على الفرنسيين. إن هذه المكانة الدينية التي كان حظي بها رجال الدين المسيحي في المجتمع الفرنسي، جعلتهم يحصلون على امتيازات عديدة موروثة هي الأخرى عن العهد الإقطاعي واستمرت إلى غاية قيام الثورة الفرنسية التي وضعت حدا لها، حيث امتلك هؤلاء أراض شاسعة " 10 % من الأراضي الفرنسية " اشتغل فيها آلاف الفلاحين الفرنسيين، بالإضافة إلى حصولهم على موارد مالية مهمة من خلال ضريبة الأعشار المفروضة سنويا على الفرنسيين، والتي بلغت مداخيلها في أواخر القرن الثامن عشر مائتي مليون فرنك ذهبي، إلى جانب ذلك كانت الكنيسة المسيحية الفرنسية  ورجالها معفون من أي التزام مالي تجاه الدولة. والواقع أن هذه الأموال التي كانت تتحصل عليها الكنيسة من مختلف الأنشطة الفلاحية والضريبية، لم تكن تصرف لخدمة الجماعة المسيحية، وإنما كانت في أغلب الأحوال موجهة نحو تحقيق ثراء وغنى رجال الدين المسيحي وصرفها على نزواتهم وبذخهم.

    ولم تكن طبقة رجال الدين كتلة واحدة منسجمة، بل انقسمت بدورها إلى قسمين:

الإكليروس الأعلى؛ الذين كانت لهم كل الامتيازات بما فيها أخذ أعشار على المحاصيل من الفلاحين.

الإكليروس العاديين؛ الذين كانت فئتهم قليلة الاعتبار وأقرب إلى عامة الشعب.

    وقد تمتع كبار رجال الدين الذين لم يتجاوز عددهم 120 ألف شخص بثراء فاحش، وانصرف عدد كبير منهم عن أمور الدين وانشغلوا بشؤون الدنيا.

    يتبين من خلال ما سبق أن هاتين الطبقتين النبلاء والإكليروس كانتا تشكلان أقلية في المجتمع الفرنسي، لكنها كانت تستحوذ على الثروة والسلطة، في حين أقصي عامة الشعب الفرنسي من المشاركة في التسيير أو الحصول على وظائف أو تحصيل ولو نصيب قليل من الثروة التي كانت بين يدي هؤلاء، وهو ما أدى إلى تصاعد الحقد والكره من طرف الهيئة الثالثة ضد هاتين الطبقتين.

   - الطبقة الثالثة(الشعب):

   شكلت هذه الطبقة غالبية الشعب الفرنسي ابان الثورة الفرنسية، فقد بلغ عددها حوالي 25 مليون نسمة، بل و كانت تقع عليها كل أعباء الدولة الفرنسية من قبيل دفع الضرائب المتزايدة، وتقديم الجنود للحروب، وخدمة الكنيسة والنبلاء، في مقابل حقوق تكاد لا تذكر؛ فهي محرومة من حقوق الإنسان الطبيعية كحق الحرية والمساواة أمام القانون وحق الاختيار السياسي أو الاقتصادي الذي يوافق رغباتها ومصالحها، وهي كذلك مقصية من المشاركة في تسيير شؤون البلاد والدولة الدولة ومحرومة من التعيين في الوظائف ومن اكتساب الثروات المادية وتعاني من ثقل الضرائب المتعددة الأشكال المفروضة عليها من لدن ذوي الامتيازات. وينتمي إلى هذه الطبقة أو الهيئة الثالثة كما كانت تسمى أصحاب الأراضي الفلاحين واغلب التجار والحرفيين من أرباب المهن والحرف ورجال الصناعة والمحامين والأطباء والمثقفين وأصحاب الدكاكين والعمال.

    وقد حظيت فئة قليلة من الطبقة الثالثة بوضع مالي متميز، منحها مكانا هاما في اقتصاد البلاد، أطلق عليها اسم البرجوازية التي يرجع تشكلها إلى بداية تراجع الاقتصاد الإقطاعي وظهور الاكتشافات الجغرافية، وتحرر الأقنان وتوجههم نحو الاشتغال بالحرف والتجارة، فبدأت هذه الفئة الصاعدة في مراكمة الثروات، والاهتمام بتعليم أبنائها فظهر بينهم مثقفون ومتعلمون، باتوا يتطلعون إلى منافسة أبناء النبلاء حول المناصب الكبرى في الدولة. لذا لا غرابة إن وجدنا الثورة في بدايتها على الأقل قامت من أجل إلغاء امتيازات النبلاء ورجال الدين أكثر من توجهها نحو إسقاط النظام الملكي. لذلك كان للبرجوازية دور محوري في خلق الثورة وتوجيه أحداثها، انطلاقا من سخطها المعنوي على أوضعاها على حد تعبير حنة أرندت في كتابها "في الثورة".

    وقد وجدت الهيئة الثالثة لاسيما البرجوازية المدعومة ماسونيا في أفكار ما يسميه روادها بالتنوير المادي الالحادي ونظرياته السياسية، الداعية في مجملها إلى نبذ اللامساواة واحترام حقوق الإنسان، مرتكزا اعتمدته في تحليل ونقد واقعها، حيث كان مركزها الاقتصادي المتنامي الجديد يشعرها بضرورة القيام بالدور السياسي الملائم لثرواتها وكفاءاتها، وكذلك انخراطها في الحياة السياسية والإدارية لتأمين مصالحها والدفاع عنها. وبالتالي فإنها لم تكن لتقبل أن تكون على الهامش أمام وضعها هذا.

     ويبقى أن نشير ونحن نتحدث عن الهيئة الثالثة إلى فئة الفلاحين التي كانت تشكل أربع أخماس سكان فرنسا، نظرا لاعتماد اقتصادها على النشاط الفلاحي و التجاري و الصناعي، وقد استمر هؤلاء في أداء السخرة والكلف للنبلاء ورجال الدين، حيث كانوا يعتبرون أخداما لهم، يؤدون جميع الضرائب المفروضة عليهم لخزينة الدولة، ولا يحق لهم عرض محصولهم في الأسواق، إلا أن أوضاعهم بدأت تتغير تدريجيا حيث تحولوا إلى ملاك للأراضي التي كانوا يزرعونها؛ ما يعادل ثلث أراضي المملكة، ولكنهم ظلوا بالرغم من كل ذلك يؤدون الحقوق الإقطاعية للنبيل.

     ويمكن القول إن هذه الطبقة كانت بمثابة السلاح والذريعة الذي استخدمته البرجوازية الماسونية لتحقيق أغراضها من الثورة والسيطرة على الحكم والحلول محل أعدائهم النبلاء الاقطاعيين ورجال الدين المسيحيين، وذلك بدفعها للتخلص من الأعباء الإقطاعية التي ضاقت بها.

خاتمة

     هكذا ستتسبب الثورة المسلحة الفرنسية -التي أشعل فتيلها البورجوازيون الباحثون عن المصالح النفعية والمادية بتواطىء مع بعض النبلاء المثقفين المؤيدين للحكم الجمهوري -تحت ذريعة انقاذ الأقنان الفلاحين الفقراء والمستضعفين من الأوضاع الصعبة التي عاشوها زمن الاقطاع القروسطي الملكي المسيحي ؛ و بذلك ستزداد الأوضاع المادية و الاجتماعية للرعايا الكادحين غداة وصول البورجوازية للسلطة و تنحية الاقطاعيين عنها و الانتقال بفرنسا من النظام الملكي الدستوري الى عصر الجمهورية الفرنسية الأولى التي سينتهي حكمها بالصراعات المحلية و الحروب الاهلية بين المنتصرين في الثورة حلفاء الأمس أعداء اليوم و من ثم الانتقال في حكم امبراطوري استبدادي سيزيد الأوضاع الاجتماعية سوءا و المشاكل تفاقما.

تعليقات