القائمة الرئيسية

الصفحات

الأوضاع الاقتصادية و السياسية قبل الثورة الفرنسية


 

الأوضاع السياسية والاقتصادية قبل الثورة الفرنسية

 

الأوضاع السياسية:

   تتجلى الأسباب السياسية للثورة الفرنسية في طبيعة النظام السياسي الذي حكم فرنسا، فهو نظام حكم مطلق يستمد فيه الملك سلطته من نظرية الحق الإلهي، فيصبح بموجبها هو الحاكم الأوحد للبلاد، والمحتكر لكل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. ويمكن القول إن هذا النظام كان نظاما إقصائيا، فقد اعتمد في تسيير الدولة على أقلية أرستوقراطية  مسيطرة على الثروة والسلطة في المقاطعات أغلبهم من النبلاء والإكليروس، في حين همش باقي الفئات الاجتماعية من الهيئة الثالثة التي كان يطمح أفرادها إلى لعب دور في إدارة الدولة خاصة الطبقة البرجوازية.

    لقد أدى هذا الانحياز إلى فئتي النبلاء والإكليروس وخصهما بالهبات والأجور المرتفعة من خزينة الدولة، بينما الغالبية العظمى من الشعب الفرنسي كانت ترزح تحت وطأة الفقر والفاقة، إلى فقدان الملك لهيبته أمام الفرنسيين، واهتزت صورته أكثر بينهم بعد الهزائم العسكرية المتوالية للجيش الفرنسي أمام بروسيا وبريطانيا منذ عهد لويس الرابع عشر. أضف إلى هذا أن شخصية لويس السادس عشر لم تكن بتلك الشخصية الحازمة القادرة على الحكم واتخاذ قرارات صارمة، فقد وصف بضعف الشخصية، وقلة التجربة في الحكم وانعدام الحكمة، وتحكم زوجته ماري أنطوانيت في شؤون الحكم، وشدة إسرافها من خزينة الدولة التي كانت تعاني من خصاص كبير والنتيجة هي استخفاف حكام المقاطعات بالسلطة المركزية أيام زوجها وعلى رأسهم الدوق أورليان ابن عم الملك، الذي تطلع إلى العرش لكنه تم طرده من البلاط الملكي، مما أدى إلى التفاف الشعب حوله جراء هذه الحادثة وأصبح يطلق عليه فليب المساواة، وهو ما زاد من إشعال فتيل الثورة على الملك وزوجته. وهو ما أدى إلى حدوث بعض الاضطرابات في العديد من المناطق الفرنسية منها العاصمة باريس من طرف الفلاحين البؤساء رفضا لما يحصل في نظام الحكومة ذي الطابع الإقطاعي الفيودالي.

الأوضاع الاقتصادية:

شهدت فرنسا في عهد الملك لويس السادس عشر تفاقما كبيرا في الازمة الاقتصادية على مختلف المستويات و البنيات التي تهم الاقتصاد الفرنسي في ظل تبني النظم الفيودالية التي ميزت الاقتصاد الاقطاعي الاوروبي القديم؛ والذي زاد أوضاع الفئات الاجتماعية المهمشة المشكلة للسواد الأعظم من أبناء الشعب الفرنسي حينذاك، بينما موارد البلاد في يد اقلية ارستوقراطية تتحكم بمصير البلاد تضم كل من النبلاء الفيوداليين ورجال الدين المسيحيين، أضف لذلك التبذير و الإسراف من قبل زوجة الملك الفرنسي  ماري أنطوانيت المسيطرة على خزينة الدولة المالية مستغلة بذلك ضعف لويس السادس عشر، و التي تنفق هذه الموارد على الملذات الشخصية تاركة أغلب فئات الطبقة الثالثة تعيش في فقر و مجاعات.

وتتجلى هذه الأزمة الاقتصادية فيما يلي:

ماليا: عانت الدولة الفرنسية من فراغ خزينتها خلال الربع الأخير من القرن الثامن عشر، وهو فراغ ظل ملازما للدولة الفرنسية منذ حكم الملك لويس الرابع عشر، بسبب نفقات الحروب التي خاضها ضد مجموعة من الدول.

  ورغم عجزها المالي لم تهتم الدولة منذ ذلك الوقت بإصلاح ماليتها مكتفية فقط بفرض مزيد من الضرائب على الشعب الفرنسي لسد نفقاتها، التي ازدادت في عهد الملك لويس السادس عشر خاصة مع حرب الاستقلال الأمريكية وما تكبدته فرنسا من مصاريف للمساهمة في مساعدة الأمريكيين ضد الإنجليز في حربهم.

   غير أن هذه الأزمة المالية لم تكن نتيجة ضعف في الموارد الاقتصادية، فالفلاحة والصناعة الفرنسيتين كانتا مزدهرتين، وأيضا تجارتها كانت نشيطة للغاية، بل جاءت في الواقع نتيجة عدم تحقيق التوازن بين المصاريف والمداخيل، وهذا راجع أولا لارتفاع نفقات الدولة الفرنسية ولاسيما تلك التي كانت تصرف على البلاط والجيش، وثانيا لأن الفئة الميسورة  -وهم النبلاء و رجال الدين القادرون على دفع الضرائب- لم تكن تؤديها إلى خزينة الدولة نتيجة الامتيازات التي تحصلت عليها هذه الفئة منذ زمن بعيد، وكانت الفئات المعوزة هي التي تؤدي الواجبات المالية للدولة. بل الأكثر من ذلك قامت الدولة الفرنسية بفرض ضريبة الرأس على الهيئة الثالثة، وهي ضريبة مباشرة تفرض على كل شخص ينتمي إلى هذه الهيئة.

      ومن تم فإن السياسة الضريبية غير العادلة التي اتبعتها فرنسا كانت من الأسباب الرئيسية في الأزمة المالية من جهة ومن جهة أخرى في انتفاض الشعب الفرنسي على النظام الملكي والفئات المستفيدة منه.

   ولإدراك هذا العجز المالي يكفينا أن نشير إلى ميزانية الدولة الفرنسية سنة 1788 أي السنة التي سبقت اندلاع الثورة، حيث كانت مصاريف الدولة أكثر من 629 مليون ليرة، بينما المداخيل لم تتجاوز 508 مليون ليرة، أي بعجز 121 مليون ليرة، وهو ما يعادل 20 ٪ من الميزانية العامة للدولة. ومن خلال هذه الميزانية، نجد أن نصف المصاريف تقريبا ما يفوق 259 مليون ليرة كانت توجه لتسديد قروض السنوات السابقة حيث كان الملك يلجأ إلى سد عجز الميزانية عن طريق الاقتراض سواء من داخل البلاد أو من خارجها. في حين تصرف أكثر من 165 مليون ليرة في المصاريف الخاصة بالجيش والدبلوماسية، بينما يتلقى القصر وأصحاب الامتيازات من النبلاء ورجال الدين ما يفوق 35 مليون ليرة أي 6 ٪ من الميزانية العامة، بينما تقل مجموع المصاريف المخصصة للتعليم والأشغال العمومية عن 2 ٪ من مجموع الميزانية.  حاول لويس السادس عشر تجاوز هذا العجز، عبر إصلاح مالية الدولة بتعيين مراقبين عامين للمالية، ويعد أهم هؤلاء المراقبين حيث حاول تجاوز إصلاح خزينة الدولة إلى مرحلة إغناء الأمة من خلال تحقيق عدالة ضريبية عبر فرض ضريبة تكون على أساس الأرض وليس على أساس الشخص للتخلص من الامتيازات التي كانت للأرستقراطية، وإلغاء جميع الضرائب غير المباشرة، والتحكم في نفقات خزينة الدولة. وسعى إلى تحرير التجارة الداخلية من خلال السماح للفلاح بالمتاجرة بمحاصيله لأن هذه التجارة في نظره كان من شأنها تحسين أوضاع الفلاحين. وتبعا لذلك استصدر مرسوما ملكيا في 13 شتنبر 1774م سمح تجارة الغلال في كل مكان في فرنسا عدا باريس، كما عمد إلى إلغاء الحواجز الجمركية المعرقلة للتجارة الداخلية، وتحرير تجارة الحبوب ودعم حرية العمل بإلغاء الطوائف المهنية. وسعى إلى اتخاذ بعض الإجراءات الإدارية كإشراك جميع رعايا الملك في تقلد المناصب للقضاء على احتكار الأرستقراطية لها. وتم هذا عبر ست مراسيم أصدرها تو رغو في يناير 1776 ، من ضمنها حرية التجارة في الغلال بباريس، وتعديل الضرائب المفروضة على الماشية والشحوم، وإلغاء السخرة أي العمل المجاني المفروض على الفلاحين لصيانة القنوات، والطرق، وتقرر أن يتقاضى الفلاحون منذ ذلك المرسوم أجرا عن هذا العمل، وألغى مرسوم آخر الطوائف الحرفية التي أصبحت أرستقراطية، وكانت تشرف على جميع الحرف وحدات من المنتسبين لها عبر فرض رسوم عالية للراغبين في الالتحاق بها، وقيدت فوق ذلك الصلاحية لاختيار معلمي الحرف، وعطلت بذلك وعرقلت التجارة، وقد نددت البرجوازية بهذه الطوائف لأنها كانت مقيدة للتجارة، فكان هدف تورغو من وراء هذا الإلغاء هو تحقيق التقدم الصناعي للبلاد. غير أن إصلاحات تورغو واجهتها معارضة من كل الفئات التي شعرت بخطر المساس بمصالحها، فقد حاربه التجار المحتكرون، والنبلاء لأنه أراد فرض ضرائب عليهم، ولأنه يرفع من شأن الفقراء، وأبغضه البرلمان لأنه أقنع الملك بإبطال قراراته، ووصفه رجال الدين بالكفر لأنه خفض من نفقاتهم، وكرهته بطانة الملك لأنه كان ساخطا على ارتفاع نفقاتهم.

    لذا فإن هذه الإصلاحات التي أرادها تورغو كان مآلها الفشل بسبب تحالف كل القوى ضده التي لم تكن مستعدة بعد للتخلي عن امتيازاتها، وإنقاذ مالية الدولة الفرنسية من الإفلاس. فأثارت مظاهرات في جهات عديدة من فرنسا، وامتنعت عن أداء الضرائب.

فلاحيا: شهدت فرنسا كغيرها من البلدان الأوربية ابتداء من سبعينيات القرن الثامن عشر اضطرابا في المحاصيل الفلاحية، بل إن ارتفاع المحاصيل منذ سنة 1775 تسبب في انهيار أسعار القمح والخمر، وهو ما كان له انعكاسات سلبية على مداخيل النبلاء والفلاحين وبالتالي على مشترياتهم من الحاجيات الصناعية، مما أضر بالصناعة هي الأخرى.

   كما عم القحط أنحاء البلاد في سنة 1788 أي في السنة التي سبقت الثورة، مما أدى إلى انخفاض كبير في إنتاج القمح إلى أدنى مستوى له عرفته فرنسا، ولم يكد يأتي ربيع سنة 1789 حتى ارتفع ثمن الخبز الذي أصبح نادر الوجود بين الفرنسيين سواء في القرى أو في المدن، ومما زاد من شدة هذه الأزمة الاتفاقية الاقتصادية التي أبرمتها فرنسا مع بريطانيا سنة 1786 التي سمحت للتجار بتصدير القمح نحو إنجلترا رغم حاجة الفرنسيين له طمعا في تحقيق أكبر قدر من الأرباح، ورغم تصاعد المطالب بإلغاء هذه الاتفاقية، إلا أنها لم تلق آذانا صاغية، فانتشرت المجاعة وعم الاستياء في المدن والأرياف وأخذ الفلاحون يحرقون المنازل وبدأت الاضطرابات تلوح في الأفق الفرنسي. إضافة إلى هذه الأزمة الفلاحية نجد الأوضاع في البوادي كانت دائمة الاضطراب بسبب الحقوق الإقطاعية التي منحت للنبلاء، ومن ضمنها قوانين الصيد، حيث كان يمارس النبيل هواية الصيد على حساب إنتاج الفلاح، الذي لم يكن قادرا على حماية ما يربيه من ماشية نتيجة لذلك، فلا يستطيع أن يتخذ كلبا للحراسة، ويحرم عليه مهاجمة الثعالب التي تأكل طيوره أو مهاجمة طيور الأديرة التي تأكل محاصيله الزراعية. مما كان يشعر الفلاح الفرنسي بالغبن والاحتقار من طرف النبلاء ورجال الدين فكان يتحين الفرصة للثورة على هذه الامتيازات غير العادلة الممنوحة من قبل الملكية لهم على حسابه هو.

صناعيا: فقد عرفت الصناعة الفرنسية كسادا نتيجة الأزمات الدورية التي أصابت الفلاحة وانهيار القدرة الشرائية للفلاحين بسبب انخفاض أسعار المنتجات الفلاحية، وأيضا كان ذلك بسبب غزو المنتوجات الصناعية الإنجليزية التي بدأت في هذه الفترة تشهد بوادر الثورة الصناعية، فلم تستطع المنتوجات الحرفية الفرنسية الصمود أمامها خاصة بعد أن فتحت السوق الفرنسية أمام المنتوجات الإنجليزية بفعل الاتفاقية التجارية بينهما سنة 1786م.

تجاريا: فقد عرقلت التجارة الداخلية بسبب التقسيم الإداري الذي كانت فرنسا خاضعة له، حيث قسمت إلى وحدات إدارية، ولا يمكن للتجارة أن تنتقل بسلاسة بين هذه الأقاليم إلا عبر أداء حقوق جمركية تختلف تعريفتها من إقليم لآخر، وهو ما كان يساهم في ارتفاع أسعار البضائع التي كانت تفوق في غالبية الأمر القدرة الشرائية للمستهلكين من عامة الشعب الفرنسي، أما خارجيا فقد تأثرت التجارة الخارجية الفرنسية بعد فقدان فرنسا لمستعمراتها في أمريكا الشمالية والهند لفائدة إنجلترا، وبالتالي فقدان سوق واسعة كانت تصرف فيها فرنسا منتوجاتها وتجلب مواد أخرى بأسعار منخفضة، وهو ما أثر سلبا على مداخيل الخزينة الفرنسية.

تعليقات