القائمة الرئيسية

الصفحات


 

 

الثورة الفرنسية

اعلان الملكية الدستورية

   بعد اشتداد الأزمة الاقتصادية والمالية في فرنسا حاول الملك الفرنسي  لويس السادس عشر تجاوزها عبر تعيين السيد  نيكر مراقبا عاما للمالية ووزيرا للدولة يوم 26 غشت 1788 للقيام بإصلاحات تنقذ فرنسا من الإفلاس وتداعياته التي تهدد العرش الفرنسي، غير أن نيكر لم يتمكن كسابقيه من السيطرة على هذا الإفلاس، بسبب وجود مقاومة شديدة لأي إصلاح يهدف إلى المساواة الضريبية بين مختلف الفئات المكونة للشعب الفرنسي. وأمام هذا الفشل الذريع الذي منيت به الإصلاحات التي عول عليها لويس السادس عشر لتحقيق الانفراج وسط المجتمع الفرنسي، استدعى مجلس طبقات الأمة (مجلس الهيئات العامة) الذي لم ينعقد منذ سنة 1614 ، فعلقت آمالا كبيرة على هذا المجلس من جميع الهيئات لتحقيق رغباتها؛ فقد أراد رجال الدين والنبلاء الاستمرار في السيطرة على المجلس عبر اتباع أسلوب الانتخاب عبر الهيئة، الذي يمنح لكل هيئة صوتا واحدا، وبالتالي الحفاظ على امتيازاتهم، بينما الهيئة الثالثة، تمسكت برأيها القاضي بضرورة الاقتراع الفردي، بغية الحصول على أغلبية تمكنهم من تحقيق مطالبهم، في حين كان هدف الملك إضفاء الشرعية على قراراته وإكسابها تأييدا من طرف كل الهيئات من أجل فرض مزيد من الضرائب لحل الأزمة المالية. لذا رفض الملك اقتراح الهيئة الثالثة التصويت الفردي واختار جانب النبلاء والإكليروس، مما أدى إلى قطيعة بين الملك ونواب الهيئة الثالثة.       تشبث كل طرف بموقفه، وهو الحال الذي لم يرض الهيئة الثالثة، فلا هي فرضت حق التصويت الفردي، ولا هي تمكنت من الاجتماع مع جميع الهيئات في قاعة واحدة، حيث كانت الأعراف والتقاليد المطبقة في مجلس طبقات الأمة تقضي باجتماع كل هيئة على حدة ثم التصويت على القرارات، وهو ما دفع الهيئة الثالثة إلى التوجه نحو إنهاء النظام القديم، عبر تأسيس الجمعية الوطنية بمعية بعض المنتمين للهيئتين الأولى والثانية في 17 يونيو 1789 باقتراح من النائب "سياس"، توخت منها وضع دستور للبلاد يحدد بشكل واضح حقوق وواجبات جميع أفراد الشعب الفرنسي، وإلغاء قرارات مجلس طبقات الأمة، وتحقيق المساواة الضريبية. غير أن الملك عارض تأسيس هذه الجمعية، ومنع أعضاءها من الاجتماع في 20 يونيو، لكنهم تشبثوا بها وأعلنوا في 9 يوليوز 1789 أن الجمعية الوطنية هي جمعية دستورية. بسبب الإجراءات التي قام بها الملك ومحاولته إقبار الجمعية الوطنية، لم يكن أمام البورجوازية أن تتراجع عن أهدافها التي سطرتها، فاندلعت أحداث عنف في باريس مؤيدة للجمعية الوطنية ومعارضة لقرارات الملك القاضية بمنعها، حيث استهدفت حواجز الجمارك ومخازن الحبوب في 13 يوليوز، واستولت البورجوازية على البلدية وأسست الحرس الوطني بقيادة بطل حرب الاستقلال الأمريكية "لافييت"، وهاجم الثوار مخازن الأنفاليد للبارود والأسلحة، وفي 14 يوليوز استولى الثوار على سجن الباستيل الذي كان يعد رمزا للاستبداد والطغيان في فرنسا، على إثر ذلك سارع الملك إلى سحب الجيش، وطلب من الجمعية التأسيسية مساعدته للحفاظ على الدولة. ويعد هذا الحدث (سقوط الباستيل) حدثا هاما في مسار الثورة الفرنسية حيث أسفر عن تراجع الولاء للملكية، وانهيار مؤسسات الدولة التي حلت محلها المجالس البلدية في المدن، وفي القرى سيطر الفلاحون على الحكم والإدارة، وأحرقوا الأديرة وممتلكات النبلاء، وكل الوثائق التي كانت تشير إلى الامتيازات الإقطاعية، وتلزمهم بخدمة النبلاء والإكليروس. ولوضع حد لهذه الفوضى العارمة التي أضحت فرنسا مسرحا لها، قامت الجمعية الوطنية التأسيسية بإصدار قرار 11 غشت 1789 ، ألغيت بموجبه الحقوق الإقطاعية، وكل أعمال السخرة والضرائب بما فيها ضريبة العشر الدينية، وإعلان المساواة بين الفرنسيين في تقلد الوظائف، وإصلاح القضاء. وبذلك تحولت الأمة الفرنسية من أمة يحكمها العرف، إلى أمة تستند إلى القانون في إدارة شؤونها، فألغيت على إثر ذلك كل الألقاب وأصبح جميع الفرنسيين يلقبون بلقب المواطنين. وأدت هذه الإجراءات إلى عودة نوع من الهدوء إلى فرنسا. وفي السياق نفسه تبنت الجمعية الوطنية التأسيسية في 26 غشت إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي حمل ملامح الطبقة البورجوازية التي أصدرته، والظروف السياسية التي أنتج فيها، وقد وضعت فيه مبادئ حقوق الإنسان على أساس أفكار روسو ومختلف مفكري الأنوار، فكان هذا الإعلان تأسيسا لنظام اجتماعي جديد، حيث اعتبر في ديباجته أن الجهل ونسيان أو احتقار حقوق الإنسان هي الأسباب الوحيدة وراء فساد الحكومات وأحزان الناس، كما أقر بالحقوق الطبيعية للإنسان. ويوضح الإعلان حقوق الإنسان وحقوق الأمة في مقدمته التي تحمل بين طياتها أفكار نظرية الحق الطبيعي، وفي مواده السبع عشر ربط الإعلان ربطا محكما بين المساواة والحرية، وقد كرس عدد من المواد حقوق الأمة، ولم تعد الدولة غاية بحد ذاتها فلا غاية لها إلا المحافظة للمواطنين على ح رية التمتع بحقوقهم، والجميع لهم الحق في العمل، كما نصت على مبدأ فصل السلطات. وقد ظل هذا الإعلان طوال ربع قرن شعارا وميثاقا لجميع الثوريين دعاة الإصلاح في أوربا. ولم يجد الملك لويس السادس عشر أمام نجاح الثورة وانضمام مختلف الفئات إليها، سوى قبول ما أسفرت عنه مقررات 11 و 26 غشت 1789 ، غير أنه لم يستطع تقبل انتزاع سلطاته منه وتحوله إلى مواطن خاضع للقانون كباقي أفراد الشعب الفرنسي، فحاول استعادة سلطاته والقضاء على الثوار الفرنسيين عبر التحالف مع الأنظمة الملكية المتخوفة من انتقال الثورة الفرنسية إلى أراضيها، وبالأخص تهديدها لعروشها، فدبر محاولة للهرب بالتعاون مع هذه الأنظمة إلى خارج فرنسا، إلا أنها باءت بالفشل بعد القبض عليه في 21 يونيو سنة 1791 في مدينة "فارين" الواقعة شمال شرق فرنسا، فقضى ذلك على ما بقي من جسور بين العرش والثورة التي كانت العناصر الثورية المعتدلة تحرص منذ البداية على استمرارها، فقررت الجمعية الوطنية تجريد الملك من جميع سلطاته بهدف امتصاص غضب الشعب من خيانة الملك، وهو قرار عارضه ملوك أوربا الذين هددوا فرنسا بالاجتياح العسكري إذا مس الملك بسوء، مما أظهر الملك بمظهر المتعاون مع القوى الأجنبية، وهو ما منح أعداء الملكية مزيدا من القوة المعنوية.

       ورغم كل هذا التخبط، فقد أصدرت الجمعية الوطنية التأسيسية دستور 3 شتنبر 1791 ، الذي لبى جزء كبيرا من مطالب الثوار، فأصبحت فرنسا ملكية دستورية، وأضحت الأمة هي مصدر السيادة التي تمارسها بواسطة مختلف الهيئات المنتخبة والملك ، فمنحت للملك السلطة التنفيذية، بينما وضعت السلطة التشريعية بين يدي الجمعية التشريعية المنتخبة من الشعب، وأوكلت السلطة القضائية إلى قضاة منتخبين، كما شرع في انتخاب مسيري الإدارة المركزية.

    غير أن ما يعاب على هذا الدستور هو إقصاء جزء من المواطنين من المشاركة في انتخاب ممثليهم، حيث نص القانون على أن هذا الحق مكفول لأصحاب الأملاك الذين يفوق سنهم 25 سنة، والذين يؤدون ضريبة تعادل أجر ثلاثة أيام عمل، غير أن عدد هؤلاء لم يتجاوز الأربعمائة ألف شخص، بينما الذين لا يعتبرون من الملاك بلغ عددهم حوالي الثلاثة ملايين نسمة.

    بالإضافة إلى هذا أكد الدستور على تبني الحكم اللامركزي، حيث قسم التراب الفرنسي إلى 83 مقاطعة، تضم كل واحدة منه دوائر وجماعات، يسيرها مندوبون يختارهم السكان، وبذلك أصبح التنظيم الإداري الفرنسي لامركزيا. كما ألغيت الضرائب القديمة وتم إقرار ثلاث ضرائب الأولى عقارية والثانية على الدخل والثالثة على الأنشطة التجارية والصناعية، كما أعيدت هيكلة الكنيسة وجعل ولاؤها للدولة الفرنسية بدل البابا في روما، أ وصبح رجال الدين يعينون من قبل الدولة الفرنسية ويتقاضون أجورا من خزينتها وهي المتكفلة برعاية شؤون الكنيسة ككل. 

    تأسيس النظام الجمهوري:

     شهدت فرنسا خلال هذه المرحلة أحداثا خطيرة داخليا أو خارجيا، كادت تعصف بمكتسبات الثورة الفرنسية. فقد اكتسحت الأراضي الشرقية الفرنسية من طرف بروسيا والنمسا، وتوالت الهزائم العسكرية على فرنسا، كما واجهت صعوبات اقتصادية، مما دفع الشعب من جديد إلى الثورة حيث هاجمت الجماهير الباريسية قصر "تويلوري" وأهين الملك والملكة.

    فهددت الأنظمة التقليدية المتحالفة في شخص قائد الجيش البروسي والنمساوي برونسويك ببيان شديد اللهجة في حالة المساس بشخص الملك، فرد السكان بثورة ثانية في 10 غشت 1792 ، هاجموا خلالها القصر الملكي وألقوا القبض على الملك. وسرعان ما أعلن النفير العام في فرنسا ضد التحالف التقليدي حيث تمكن الثوار من هزيمة الجيش البروسي.

     وفي خضم هذه الأحداث أسس مجلس تشريعي جديد عوض الجمعية الوطنية التأسيسية أطلق عليه اسم المؤتمر الوطني في 20 شتنبر 1792 ، الذي تشكل من 780 عضوا أغلبهم من الطبقة البرجوازية، فغلب عليه تيارين متعارضين مما أدى إلى طغيان الخلاف على هذا المؤتمر، وهما الجيروند واليعاقبة:

الجيروند: بلغ عددهم في المؤتمر الوطني 165 عضوا، وهم نواب بورجوازيون ديمقراطيون معتدلون، دافعوا عن الحرية الاقتصادية، وعن إبقاء الملكية الدستورية كنظام سياسي بفرنسا، وأيدوا مواجهة أعداء الخارج أولا للحفاظ على الثورة.

الجبليون اليعاقبة: عددهم 50 عضوا، يمثلون البورجوازية المتوسطة والصغيرة، من أبرزهم روبيسبيير ودانتون.

حزب السهل: الذي بلغ عدد أعضائه 400.

 فبعد الانتصار الساحق الذي حققه جيش الثورة على الأعداء الخارجيين، سارع هذا المؤتمر في 22 شتنبر 1792 إلى إلغاء الملكية بصفة نهائية في فرنسا وإعلان الجمهورية. اشتد الخلاف بين تياريي البورجوازية المعتدلة والأخرى المتطرفة داخل المجلس التشريعي الجديد ولعل أبرز نقط الخلاف تتجلى في تمسك الجيروند بحرية التجارة والمبادرة الاقتصادية، واعتبارهم أن الثورة قد حققت أهدافها، لذا يجب وضع حد لها والعمل على تجنب العنف بمختلف أشكاله. بينما اليعاقبة اعتبروا أن الثورة لم تحقق بعد الحق في الوجود، وسعادة الشعب، لذلك يجب عليها أن تستمر وهو ما سيؤدي حتما إلى خسائر في الأرواح والممتلكات، بالإضافة إلى تأييدهم لمواجهة أعداء الثورة من الداخل. لقد اشتد الخلاف بين هذين التيارين أكثر في قضية مصير الملك لويس 16 ، فالجيرون د كانوا يريدون محاكمة الملك كمواطن فرنسي عادي دون أن يتحاملوا عليه، وأيدوا استفتاء الشعب في ذلك، بينما اليعاقبة أرادوا محاكمة الملك باعتباره رمزا للنظام الملكي، وأيضا لكونه حاول إقبار الثورة بالتحالف مع قوى أجنبية. انتصرت آراء اليعاقبة في هذه القضية فحوكم لويس 16 أمام المؤتمر الوطني في 13 دجنبر 1792 ، الذي أصدر حكما بإعدامه الذي نفذ في يوم 21 يناير 1793 . وبذلك بات اليعاقبة هم المتحكمون في النظام السياسي الفرنسي، وأصبحوا هم موجهي الثورة الفرنسية بعد تواري البورجوازية المعتدلة عن الأنظار.

     ولم يمر هذا الإعدام دون أن تكون له آثار سلبية على فرنسا داخليا وخارجيا، حيث نشأت في مقاطعة فوندي ثورة من طرف البورجوازية ومؤيدي الملك، مما جعل فرنسا تدخل في سلسلة من الأحداث الدامية، حيث راح ضحيتها حوالي 117 ألف شخص، وظهرت اضطرابات عديدة في البوادي والمدن بسبب انتشار البطالة وغلاء الأسعار، وانخفاض قيمة العملة.

    أما خارجيا فقد واجهت فرنسا من جدي د تحالف الأنظمة التقليدية ضدها؛ إنجلترا والنمسا وبروسيا التي كانت مناصرة للملكية الفرنسية، ومتخوفة في الوقت ذاته من انتقال الثورة إلى بلدانها. لمواجهة كل هذه الأخطار التي عجزت البورجوازية المعتدلة عن إيجاد حلول لها، نشأ تقارب بين أهل السهل وأهل الجبل، وذلك لتحقيق بعض المطالب التي نادى بها الفرنسيون في هذه المرحلة، ومن ضمنها تحديد سعر للعملة، والحد الأقصى لأسعار الحبوب، وإحياء المحكمة الثورية في 10 مارس 1793 ، وحاول الجيروند تأليب الرأي العام الفرنسي ضد هذا التحالف، إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل، حيث خرجت مظاهرات في باريس مؤيدة لليعاقبة، ومطالبة بمحاكمة الجيرونديين، فتم توقيف بين شهري ماي ويونيو 1793 العشرات منهم، فبدأت مرحلة الجمهورية اليعقوبية. أسفرت كل هذه الأحداث عن وصول اليعاقبة إلى الحكم في فرنسا، حيث أسست أول حكومة في عهد الجمهورية بقيادة روبيسبيير، أ وصدر دستور سنة 1793 الذي كان مخالفا لدستور عام 1791، حيث نص على أن فرنسا جمهورية، وحق الانتخاب لجميع أفراد الشعب الفرنسي بصرف النظر عن ما يؤدونه من ضرائب، وتقديم المساعدة الاقتصادية والاجتماعية لمواطني فرنسا.

   كما حاول اليعاقبة تثبيت دعائم الثورة الفرنسية عن طريق تأسيس العديد من اللجان الثورية التي أوكلت لها سلطة حقيقية، ومن بينها لجنة السلامة العامة، ومهمتها إصدار القرارات إلى الوزراء لينفذوها، ولجنة الأمن العام التي تراسها روبيسبيير، ومهمتها محاربة أعداء الثورة وتوجيههم إلى المحاكم الثورية، ولجنة الحراسة والجيش الثوري.

    وقد حاولت حكومة اليعاقبة كذاك  تحقيق نوع من الاطمئنان الاقتصادي بعد سيطرة حالة الخوف التي باتت تعيشها فرنسا، عبر القيام ببعض الإجراءات التي رامت تحقيق نوع من المساواة الاقتصادية، عبر إقرار قانون الحد الأعلى لأسعار المواد الغذائية، والحد الأعلى للأجور لإرضاء أرباب المعامل، كما استولت على الحبوب لضمان تغذية الجيش والمدن، والاستيلاء على أملاك المهاجرين وضمها إلى ممتلكات الدولة، وتجزيئها حتى يستطيع صغار الفلاحين اقتناءها، والعمل أيضا على الاهتمام بالتعليم من خلال جعله إلزاميا ومجانيا لجميع أفراد الشعب الفرنسي، وإقرار الزواج المدني الذي كان يراد منه تكريس مزيد من الفصل بين الكنيسة والدولة والكنيسة والمجتمع.

      غير أن أعمال العنف والإرهاب تصاعدت بشكل كبير، فلم يعد الشعب الفرنسي مطمئنا على حياته، غير أن هذا الأمر أدى إلى تخوف أعضاء المؤتمر الوطني من أن يواجهوا حكم الاعدام ، فتحركوا ضد روبيسبيير الذي حملوه مسؤولية الرعب الكبير الذي عاشته فرنسا، فأعدم بمعية بعض أصدقائه في 28 يوليوز سنة 1794 . 

 فرنسا في ظل حكومة الإدارة 27 يوليوز 1794 -9 نونبر 1799:

   عاد التيار المعتدل من جديد إلى التسيير السياسي في فرنسا بعد القضاء على روبيسبيير، فانتهت فترة الرعب التي كانت السمة الأبرز في حكومة اليعاقبة، ومعها انقضى عهد حل كل المشاكل الداخلية والخارجية بواسطة العنف والإرهاب، فاتخذت قرارات قطعت الروابط مع هذا العهد من ضمنها منع نشاط كمونة باريس، ونادي اليعاقبة، والعفو عن زعماء الجيروند، والسماح للمهاجرين منهم ومن أنصار الملكية بالعودة إلى فرنسا.

          من ثم دخلت الثورة ومعها فرنسا بفعل هذه الإجراءات، مرحلة جديدة أطلق عليها مرحلة الإدارة نسبة إلى المديرين الخمسة الذين عهد إليهم أمر تسيير الدولة. وهو ما أقره دستور سنة 1795 الذي كان هدفه منع الاستبداد باسم الثورة أو الانزلاق الدموي كما حدث أثناء حكومة روبيسبيير، مع الحفاظ على مكتسبات الثورة السابقة المتمثلة في النظام الجمهوري، حقوق الإنسان، والمساواة و غيرها، ولتيسير ذلك أسست حكومة جديدة سميت بحكومة الإدارة، كانت السلطات فيها مستقلة ومجزأة بين ثلاث مؤسسات:

 - حكومة الإدارة (السلطة التنفيذية): السلطة تكونت من خمس مدراء يتداولون الرئاسة كل ثلاثة أشهر، وتسقط عضوية كل واحد منهم سنويا بالاقتراع، وينتخبهم مجلس الشيوخ بعد أن يقدم مجلس الخمسمائة قائمة تضم 50 عضوا.

 - مجلس الخمسمائة (السلطة التشريعية): يضم خمسامئة عضو تزيد أعمارهم عن الثلاثين سنة.

 - مجلس الشيوخ: يضم 250 عضوا، تزيد أعمارهم عن الأربعين سنة، مهمته مراقبة أعمال مجلس الخمسمائة.

     إن تقسيم السلطة وتوزيعها بين العديد من المؤسسات حسب دستور 1795 ، أدى إلى صراعات بين مختلف المؤسسات أظهرت حكومة الإدارة بمظهر الضعف وعدم القدرة على مواجهة المشاكل الداخلية والخارجية للبلاد، فعلى المستوى الداخلي نجد تنامي قوة القادة العسكريين بعد الانتصارات التي حققوها ضد التحالفات التي تمت ضد فرنسا، على حساب تهاوي شعبية أعضاء حكومة الإدارة، خاصة بعد إخمادهم للحركة المعارضة لدستور 1795 وللمؤسسات السياسية الناشئة، وكان أبرز قادة هذا الجيش نابليون بونبارت الذي علا صيته منذ تلك اللحظة التاريخية في فرنسا.

       كما نجد مشاكل متعلقة بعودة المهاجرين من رجال دين ونبلاء إلى فرنسا المؤيدين لعودة الملكية، وأيضا المشاكل الاقتصادية الناجمة عن انخفاض قيمة العملة الفرنسية، بالإضافة إلى التصادم المستمر بين الهيئة التشريعية وحكومة الإدارة. ومما زاد من تأزم هذه الوضعية هي ظهور انتفاضات في مجموعة من أنحاء فرنسا بسبب ارتفاع الأسعار وانتشار الفقر  والجوع، كان من أبرزها وأخطرها على الجمهورية الفرنسية هي ثورة "بابوف" الذي أعدم في ماي سنة 1797 ، وكذلك الثورات المضادة التي استمر في إشعال فتيلها بين الحين والآخر أنصار الملكية الراغبين في إعادة النظام الملكي إلى فرنسا من جديد.

    وتجلى أكثر ضعف هذه الحكومة وتراجع شعبيتها، بعد تمكن كل من اليعاقبة والملكيين الدستوريين من الانتصار في الانتخابات سنة 1797م مما شكل ضربة قوية لمجلسي الخمسمائة والشيوخ، اللذين اختل التوازن فيهما، وهو أمر كان غير مقبول من طرف أنصار الثورة.

     بفعل هذا الانتصار شعرت البرجوازية المعتدلة بالخطر القادم، وتهديد النظام الجمهوري من طرف أنصار عودة الملكية إلى الحكم في فرنسا، فاستعانت بالجيش الذي كان قويا بما فيه الكفاية للأخذ بزمام الأمور في الدولة الفرنسية بفعل الانتصارات التي حققها في أوربا ضد النمسا، خاصة وأنه وجد على رأس ذلك الجيش المنتصر في إيطاليا الجنرال نابليون بونبارت الذي عرف بدفاعه عن الحكم الجمهوري وتأييده لمبادئ الثورة، وقد حمى نابليون الثورة بفرقة من جيشه التي أرسلها لإخماد التمرد ضد حكومة الإدارة، واعتقل النواب المشكوك في ولائهم للثورة، وكذلك كان الأمر في الأقاليم، حيث ألغيت العديد من نتائج الانتخابات، وأصدرت أحكام بالنفي والإعدام في حق العديدين من موالي النظام الملكي. وكل هذه الإجراءات كان الهدف من ورائها الحفاظ على حكومة الإدارة الضعيفة، والتعلل بمنع لويس الثامن عشر وأنصاره من العودة إلى الحكم في فرنسا.

        غير أن ارتفاع الأسعار وتدني المستوى المعيشي لفئات من المجتمع الفرنسي في مقابل ازدياد غنى أعضاء حكومة الإدارة ومموني الجيش، أدى إلى عودة الاضطراب من جديد إلى البلاد الفرنسية، في وقت استبعدت حكومة الإدارة نابليون بونبارت في حملة إلى مصر سنة 1798 تخوفا من طموحاته للوصول إلى السلطة، وقد عاد سرا إلى فرنسا في أواخر سنة 1799م ، حيث تحالف في 9 نونبر مع أحد المديرين الخمسة(سييس) فنظم انقلابا ضد حكومة الإدارة. وقد عرف هذا الانقلاب بانقلاب "بريمير" وكان ذلك في 10 نونبر 1799م ، وبه تقرر إلغاء حكومة الإدارة وإنشاء اللجنة القنصلية التنفيذية المؤلفة من "سييس" و"روجيه ديكو" و"نابليون بونبارت"، وبذلك انتهى عهد حكومة الإدارة وبدأ عهد القنصلية أو جمهورية القنصلية التي كانت نهاية للثورة الفرنسية، فوضع دستور جديد يقضي بوضع السلطة التنفيذية في يد ثلاثة قناصل، وتقرر أن تعهد هذه السلطة في المدة الأولى إلى نابليون بونابرت كقنصل أول ويكون له حق إعلان الحرب وإمضاء المعاهدات وإبرام القوانين، حيث استحوذ على السلطة عكس ما كان يقره الدستور إلى أن أعلن نفسه إمبراطورا سنة 1805

تعليقات